على تخوم الطفولة


على تخوم الطفولة 


كلما ساقني الحنين خلف الخطى إلى مسقط رأسي،تنفرج أسارير المحيا،تنحسر زفرات الضيق ،ويبتهج القلب، وتتبدد سحابة الكدر والانقباض..فهذه ألوان أقحوان المروج تمد  لي يد الترحاب، وسواقي الجوار تزف إلى مسامعي خرير الماء يعزف ألحان الخلود ،وشقشقة العصافير تدوي ،إيذانا بالسرور..رباه كم أشتاق إلى أبي ،ها صوته يجلجل ،وها هي الذكرى تزف إلي صوته  وهو يصارع العجل السمين  المزركش بياضا وسواد ا:
- ناوليني السكين ، فقد يرفسك الثور يا مليكة  ...
سكان القرية يلقبون والدي ) البهجة(    نسبة لأصله المراكشي  ، ولكونه كان  مبتهجا على الدوام..
كم تمنى لو كنت  ذكرا،أُميل الطاقية المراكشية على الجانب عندما أكبر،ألبس جلبابا تقليديا، وأخرج يدي من فتحة الجيب ،كما ورث هو عن أجداده ،  أحمل شكارة جلدية من الصنع التقليدي الرفيع لجلود بلادي، وتستقر لحظة اهتزازها على الخصر ،فينادونني البهجة الصغير..كانت أغاني حميد الزاهر تصدح في البيت وفي المجزرة ..كان يحبه كثيرا .لقد كان زوجا لإحدى  عماته..
آه، كم يشع بريق عينيه لهفة ،كلما رآى  عبد الله، وإدريس ،ونور الدين، أبناء صديقه عمي أحمد  .. !
أشفق على أمي وبقوة ولهذا، أقرر أن أصبح طفلا بطريقتي، لأحقق أمنية والدي:
كان أبي  يوما منهمكا في حديثه  عن  طعم أن يكون للمرء أولادا  ذكورا ..لمحت أمي تطأطئ رأسها وقد اغرورقت عيناها دمعا ،أواه، كم تمنيت لو أني أستطيع لثم فؤادها ببلسم شافٍ..صبرا أماه، الله هو المعطي المانع ..ازدان فراشك بخمس جوهرات في سن الزهور، بينما يكاد قلبه يتفطر على ولد، مجرد ولد، يعلم الله إن كان سيكون جوهرة، أو قطعة حديد صَدِئة ...؟؟
حز المشهد في قلبي ،آلمني كثيرا، المسكينة، ينقصها أن تستأجر رحما تدفع لأبي  عدد ما شاء من ذكور، لمزيد من الانتشاء  برجولته.. ؟ !
أخذت سروال أبي من حبل الغسيل، تسللت إلى غرفتي، أوصدت الباب، وأطلقت العنان لأناملي الصغيرة تقص شعري، حتى أتيت على آخر شعرة فيه ،ثم أخرجت من تحتي سروال أبي الطويل العريض ..قصصت أرجله فلبسته.
اِفتقداني  فقاما يبحثان عني،طرقا الباب ،دخلا الغرفة،هالهما المشهد  !رأياني كعمود ظل أقف أسامر طيفي ،أحوم حول محوري ،وقد اعتمرت قبعة أكبر من حجم رأسي ،و تنزل على جبهتي حتى تغطي عيوني ،أرفعها حذو منابت الشعر، فتعود لتنزلق بينما يدي الأخرى  تمسك السروال في إصرار، حتى لا ينزل عن خصري النحيل..
في رباطة جأش تقدمت صوبهما و أنا أقول : أبي أمي، اسمي الآن : عبد  الملك،لن ألبس بعد اليوم تنورة، كما ولن أطيل شعري ،أنا هو الطفل الذي لم تُرزقاه .. وكفاك الله يا أمي شر النبش عن بويضة ذكر في عشك، عبثا تفعلين،  فلتقرِّي عينا..
سأبدأ حياة جديدة ،أتسلل إلى تجمعات الصبيان، ألعب الكرة ، وأسوق الجديان إلى المرعي ،أحفر السواقي، وأستحم بالوديان.،وحين أكبر سأصبح ساعدك الأيمن يا أبي.،أذبح الخراف والثيران ..فهل هذا كاف لأصبح ذكرا؟
أخذني في حضنه ورصع جبيني بقبلة ،كانت قبلة تحمل من الحنان ما لو وزع على ألأطفال المحرومين لكفاهم.قبلني وهو يقول في سرَّة :
-بارك الله فيك يا بنتي..
علت محيا أمي بسمة ذابلة، تقول هيهات هيهات..أنىَّ لذكر أن يولد من حَزِّ جدائل البنات !؟
والد ي جزار القرية المحبوب، كانت مجزرته تبعد عن البيت قرابة ربع ساعة مشيا على الأقدام ،في سن السادسة دخلت المدرسة وكانت مدرستي تبعد عن المجزرة بخطوات فقط.
كنت أغادرها على الساعة الحادية عشرة صباحا فأقصد المجزرة والسعادة تطل من عيوني،ما أن أصل حتى أرمي محفظتي أرضا وأستعد لوضع طاجين مغربي على مجمر الفحم ،فأظل أرقبه مخافة أن يذبل الجمر، أو أن يشح ماء الطاجين ..فلا أبرحه حتى ينضج.
اعتدت على تناول الغذاء مع والدي، والبقاء صحبته حتى التاسعة ليلا..
ألفت الوقوف ،أتأمل حركاته وهو يسلخ ذبائحه ،ألوح بنعلي البلاستيكي وأنتعل الحفاء كما يفعل صبيان الحي فأحمل دلوا أملأه عن آخره من مجرى مائي قرب مكان الذبح وأناوله إياه.فأنهمك في جر الجلد لأعرضه على الشمس وأنثر عليه زخات ملح وبعد الانتهاء أتفنن في طيه وتركه مكانه حتى يحين وقت إضافته إلى قائمة الجلود التي ترسل بعد أيام  إلى مدينة فاس حيث المدابغ العريقة والمعلمين والمتعلمين ممن يصنع من جلود والدي تحفا جميلة تفخر بها الصناعة التقليدية المغربية.
كنت  ألهث من فرط التعب لكنني لا أستسلم.يتأملني الزبناء فيربتون على كتفي وينادونني )عبيبيس( تصغير اسم والدي عباس ..أزداد زهوا وفرحا ويزداد حماسي جرعة إلى جرعتي الأصلية.أعود  ألتقط قوائم الثور واحدة تلو الأخرى وأرصها على طاولة صنعت خصيصا لاستقبال باقي أجزاء الثور كالرأس والكبد والطحال لأبيعها بالتقسيط.
ألفت جو المجزرة وألفني الزبناء ،أصبحت مع مرور الوقت أتقن السلخ وتقطيع اللحم .. خلال أيام العطل يخرج إلى السوق مطمئنا وقد أوصى أمي بإرسالي إلى المجزرة ..في البدء كنت لا أقوى على تقطيع اللحم فلا يغادر حتى يقطع أكبر كمية منه وحينها أبقى ملزمة بوزن اللحم وتحصيل الأثمنة وحسن التعامل مع الزبناء.. لطالما أوصاني بالسماح لأشخاص بعينهم بأخذ اللحم دينا شرط تسجيل الاسم والكمية في سجل خاص يسميه والدي : )سجل الطلق(لكن كثيرا ما كنت أمتطي هوى نفسي وأرفض مداينة زبناء بعينهم لا لشيء سوى أنهم  لا يروقون لي متحدية بذلك أوامر والدي..الذي استطاع الاعتماد علي حتى أصبحت فعلا ساعده الأيمن.. حظيت بشعبية كبيرة بين التلاميذ حين كنت آوي إلى مجرى مائي كبير في القرية صحبة زملاء القسم ,أمسك بالضفادع أفصل عنقها عن صدرها لأني كنت أكره منظرها..علم المعلمون بالخبر فكانوا يعجبون لأمري وكان أحدهم يقول لي على الملإ :
-       والدك جزار بهائم وأنت جزارة ضفادع..
لأبي مكان حبيب إلى قلبه كان لا يبرحه ..هناك في الجانب الأيسر للمجزرة قرب الطاحونة القديمة حيث كروم العنب والعناقيد المتدلية تحت ظلها الوارف وحيث دكان عمي لحسن السوسي بائع المواد الغذائية  ..كلما غاب والدي أسرعت في اقتناء قارورة من فئة 1لتر من مشروب »كوكا كولا «  علبة سردين و قطعة خبز بطول ساقي   أنكب عليها ألتهمها في نهم وما أن ألتهم ربع الربع فقط، حتى تمتلأ معدتي فأسارع إلى أحد المجاري أسكب مابقي في الزجاجة وأعيدها إلى عمي لحسن ..أما ماتبقى من الخبز فمصيره حاوية الأزبال مخافة أن يعاتبني  والدي على تبديري..   كانت حياتي زاخرة بأحداث وتجارب لم تعشها الفتيات في سني بما فيهن أخواتي ..
سنة 1970م أصبحت أمي حاملا للمرة السادسة على التوالي مع العلم أننا كنا جميعا كما يقولون ) :راضعين الغيال (لأنها ما أن تضع حتى تصبح حاملا في أقرب فرصة بحثا عن مولود ذكر طبعا ..كنت في سن الخامسة عندما وضعت أمي طفلا .باركت القرية كلها المولود الجديد ,ذبح والدي بقرة صفراء فاقع لونها وكبشا أقرنا,أطعم الضيوف وصنع لأمي (الخليع )فهي تتناوله بكثرة أثناء  النفاس وأثناء الوحم لعلها تلد مولودا ذكرا.. هاته المرة  وبعد مرور أربعين يوما ، أخلفت بطن أمي الميعاد ..لم تحمل أبدا,انتظر والدي ست سنوات سنة تلو الأخرى لعل الله يرزقه ذكرا آخر ...
كنت في سن الحادية عشرة عندما أمطر قضاء الله وقدره أبي، خمس رصاصا أردته  على الفور قتيلا ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تجاعيد على قلب صغير

( التجارب المخبرية :محنة للحيوان ,منحة للانسان)

(سجان من غوانتانامو )